منذ أسبوعين - Saturday 26 April 2025
بعد سنوات من القصف والتدمير والحصار، وبعد أن تحولت سماء اليمن إلى ساحة ركام، اكتشفت السعودية فجأة أن السلام أجمل من الحرب!
لا اعتذار، لا مراجعة للماضي، لا تحمل للمسؤولية. فقط إعلان ناعم عن الرغبة في “إنهاء الصراع” وكأن حرب السنوات العجاف كانت خطأ تقنيًا بسيطًا.
ولكن السؤال الحقيقي الذي يفرض نفسه اليوم:
هل تريد السعودية حقًا إنهاء الحرب في اليمن، أم فقط تسعى للخروج من المستنقع بأقل الخسائر بينما تترك النار مشتعلة تحت الرماد؟
وهل يكفي أن تتوقف الطائرات عن القصف، بينما تستمر أبواق الفتنة في التحريض، وتستمر الأموال في تمويل الانقسامات!
بعد سنوات من الغارات المكثفة، والبيانات النارية، والتحالفات الصاخبة، ها هي السعودية تُطل على العالم بوجه جديد… وجه السلام.
نعم، فجأة — بلا مقدمات — قررت الرياض أن السلام أفضل من الحرب. قررت أن ما عجزت عنه صواريخها وأموالها، قد يتحقق بابتسامة دبلوماسية هنا، وصورة مصافحة هناك.
لماذا؟
لأن الحروب مكلفة، والدمار مشوه للواجهة الاستثمارية، ومشاريع “نيوم” لا تحتاج لصوت الانفجارات القادمة من الجنوب.
فاليمن، بالنسبة لكثيرين، مجرد حديقة خلفية، لا بأس إن كانت محترقة طالما أن البيت الرئيسي يلمع ويستقبل السياح من كل بقاع الأرض
وهكذا، وبين ليلة وضحاها، تحولت الحرب إلى “نزاع مؤسف”، والخصوم إلى “شركاء سلام محتملين”.ولكن ، قبل أن نفتح قلوبنا ونوزع باقات الزهور، من حقنا أن نسأل:
أي سلام هذا؟ ومن يضمن ألا يكون مجرد “هروب تكتيكي” قبل إشعال جولات جديدة من الصراع بأدوات أخرى، المشهد واضح لكل من يملك عينًا ترى.
الرياض تريد أن تنهي عبئ الحرب العسكري والسياسي، ولكن دون أن تتحمل تبعات الخراب الذي ساهمت في صناعته.
هناك نية حقيقية لتأمين الحدود الجنوبية، نعم، وهناك رغبة صادقة في وقف الصواريخ والمسيرات الحوثية، صحيح.
ولكن هل هناك استعداد لإعادة إعمار اليمن، ووقف العبث السياسي والإعلامي، ودعم عملية مصالحة وطنية شاملة تضم كل الأطراف اليمنية؟
هنا الإجابة تصير أقل يقينًا، وأكثر مرارة.
لكن الحقيقة أن السعودية لم تكن وحدها في هذا المستنقع، فكما أن الرياض مدت يدها بالسلاح والمال، كانت طهران حاضرة هناك، تمد يدها بالعقيدة والسلاح والولاءات.
هذا هو الامر حين تتحول المآسي إلى أوراق تفاوض: دور إيران في الكارثة اليمنية، ففي الحرب، لا أحد بريء… الجميع مدانون بدرجات مختلفة
إيران دعمت وكلاءها بكل ما تملك، لا حبًا في اليمن ولا غيرة على مصالح شعبه، بل ضمن لعبة شد الحبل الإقليمي مع خصومها.
بالنسبة لطهران، كان اليمن مجرد ورقة تفاوض أخرى، مجرد ساحة خلفية تُستثمر فيها الدماء والألم لتحقيق مكاسب سياسية على طاولة المفاوضات.
وبينما كانت الطائرات تقصف المدن، كانت الطائرات الأخرى تهبط بالأسلحة والمال والتدريب، لتُغرق البلد أكثر في مستنقع الاحتراب الأهلي والطائفي.
لم تهتم إيران بمصير اليمنيين قدر اهتمامها بمد نفوذها الإقليمي، وتثبيت موطئ قدم استراتيجي يهدد خاصرة الخليج.
وهكذا، أصبح اليمن ضحية لصراع أكبر منه، صراعٍ تحكمه حسابات العروش والعمائم معًا، لا حسابات حقوق الشعوب ولا مصالح الأمم.
وبينما كانت الرياض وطهران تتصافحان في بكين تحت أضواء الكاميرات، كان اليمن يُترك وحيدًا تحت أنقاضه.
لم تكن المصالحة بين السعودية وإيران سلامًا لليمن، بل كانت صفقة لتصفير المشاكل بينهما، ولو كان الثمن بلدًا محطمًا وشعبًا ممزقًا.
السعودية تريد أن تتفرغ لمشاريعها العملاقة وتلميع صورتها الدولية
وإيران تريد أن تفتح نوافذ جديدة للتنفس السياسي والاقتصادي بعد سنوات العقوبات والضغوط.
واليمن؟ لم يكن أكثر من بند صغير في قائمة الحسابات الكبرى، بند يمكن تجاهله بسهولة عندما تتقاطع المصالح العليا
اليوم، وبينما تلوح المصالحات في الأفق، لا تزال المحافظات اليمنية تئن من ويلات الحرب، والجبهات الداخلية مشتعلة، والميليشيات تتكاثر كالفطر السام..
في نهاية اللعبة، لا أحد يسأل عن رقعة الشطرنج بعد أن يتصافح اللاعبان
فكل المؤشرات الحالية تدل على أن ما يجري هو محاولة “خروج مشرف”، لا مشروع سلام شامل.
والرهان على أن اليمنيين سيغرقون لاحقًا في صراعاتهم الداخلية، دون حاجة لتدخل مباشر.
بمعنى آخر: اغسلوا أيديكم من الحرب… ثم اشتروا التذاكر لمشاهدة فيلم الرعب اليمني من بعيد.. أهو سلام أم هروب من مشهد الجريمة! وهذا أخطر ما في الأمر !
فالحروب لا تُطفأ بالتمني، ولا بالصمت، والسلام لا يصنعه انسحاب المرتكب من مسرح الجريمة مع إلقاء اللوم على الضحايا، الحقيقة المؤلمة أن السعودية اليوم لا تبحث عن إنهاء الحرب، بقدر ما تبحث عن إنهاء تورطها الواضح فيها، الهدف: تأمين المشاريع الكبرى. تلميع الصورة أمام العالم. إطلاق يدها الحرة في الاستثمار والسياحة، دون أن تلاحقها لعنات أطفال اليمن الذين يموتون بلا دواء ولا غذاء
فالقتل مرة جريمة… والقتل ألف مرة إحصائية.” — جملة شهيرة لكنها تصف بدقة ما يحدث اليوم، مئات الآلاف من القصص اليمنية تحولت إلى مجرد أرقام في نشرات الأخبار، وهكذا، عندما تتوقف الغارات، تعتقد الرياض أن المشكلة انتهت، وكأن إزالة الدخان تعني إطفاء النار تحت الركام.
ومع أن الحوار مع الحوثيين خطوة في الاتجاه الصحيح، إلا أن غياب رؤية حقيقية لسلام شامل، وغياب التزام بإصلاح الكارثة السياسية والاجتماعية التي فُرضت على اليمن، ينذر بأن “سلام اليوم” ليس إلا “هدنة مؤقتة” تمهيدًا لانفجار أعنف غدًا
وهل وقف الغارات الجوية يعني أننا دخلنا عصر المصالحة الكبرى، بينما الماكينات الإعلامية الممولة سعوديًا ما زالت تبث سموم الانقسام والكراهية على مدار الساعة؟
وهل يجري الحديث عن مشاركة الحوثيين في مستقبل اليمن، أم فقط شراء صمتهم عبر تفاهمات حدودية تضمن للرياض أمناً مؤقتاً!
وكل من شارك في الحرب — وأولهم السعودية — مطالبون أولًا بالاعتراف بالدور الذي لعبوه، قبل ادعاء لعب دور المنقذ.
السلام بدون عدالة هو استراحة محارب، لا نهاية للحرب.” وإذا كانت الرياض جادة فعلًا، فلتبدأ حيث يجب أن يبدأ السلام: بوقف التحريض الإعلامي، دعم المصالحة الوطنية، تعويض الضحايا، وإعادة إعمار ما دمرته الطائرات والمدافع، أما غير ذلك… فسيبقى مجرد خدعة سياسية أنيقة، لا أكثر.
اليمنيون لا يحتاجون إلى بيانات ناعمة ولا مصافحات بروتوكولية، يحتاجون إلى سلام حقيقي، يبدأ من الاعتراف بالدور الذي لعبته الرياض وغيرها في إذكاء الصراع، ويمر عبر وقف جميع أشكال التدخل، الإعلامي والسياسي والعسكري، وينتهي بدعم مشروع مصالحة وطنية شاملة لا تقصي أحدًا.
وإلا، فإن السلام الذي يُروج له اليوم لن يكون أكثر من قناع مؤقت، يخفي خلفه نارًا قابلة للاشتعال في أية لحظة.
والتاريخ — كما نعلم جميعًا — له ذاكرة طويلة… وأحيانًا، ذاكرة لا ترحم.
سلام