أزمة الليبرالية العربية

  • مقال خاص لAF
  • منذ سنة - Wednesday 21 September 2022

أزمة الليبرالية العربية

الكاسر بن مسيبع ووجهة نظر عن الليبرالية العربية 

برزت الليبرالية كحركة سياسية رافضة للمفاهيم الشائعة في العصور الوسطى وعصر التنوير، كالإمتياز الوراثي، الحق الإلهي للملوك، الملكية المطلقة، وسلطة الكنيسة، وكل أشكال الثيوقراطية والديكتاتورية، والنقطة الجوهرية في أطروحات الليبرالية هي إستبدال الحكومات الديكتاتورية بحكومة ديمقراطية تمثيلية ودولة تقر بسيادة القانون؛ لهذا، وفي ظل البطش المرعب الذي مارسه الملوك والامراء الإقطاعيين والكنيسة على الشعوب الاوروبية، نالت الليبرالية على إستحسان الرأي العام الأوروبي، وبدأت بالشيوع، وكان من تداعيات ذلك هو سقوط الملكيات المطلقة وإستبدالهن بجمهوريات أو ملكيات دستورية.


لم تكن الليبرالية أبداً سلاح لإلغاء الدين، بل جاءت لتُبعد رجال الدين من الحكم، لكن لم تلغي وجود الدين كلياً، لم تلغيه إجتماعياً وثقافياً، بل وبقي هناك إعتبار رمزي للدين في السياسة نفسها، الليبرالية جاءت كعامل توازن، واضعة حد للنفوذ الكنسي السلبي المتغلغل في نظام الحكم .


عربياً، بدأت الأفكار الليبرالية بالظهور في القرن العشرين، عقب الحرب العالمية الاولى وسقوط الدولة العثمانية، وواجهت عدة مشاكل، أدت في النهاية إلى عدم نشوء أي حركة ليبرالية قوية ومؤثرة، ولا تزال على ما يبدو هذه الإشكاليات مستمرة حتى اليوم، كأزمة متلازمة في الليبرالية العربية، من أبرز تلك الإشكاليات هي طريقة التأسيس، ورؤية الليبرالية العربية، حيث أن الليبرالية الغربية تضمنت مبادئ أساسية لا تنفصل عنها، الحرية، الديمقراطية، العقلانية، سيادة القانون، العقد الإجتماعي، السوق الحر، إلخ؛
يتجاوز معظم مفكري ورواد الليبرالية العربية هذه المبادئ، ويحصرون إطروحاتهم في النقاط الهامشية، كحرية المرأة، المظاهر الدينية، المثلية الجنسية، الحرية الجنسية، إلخ، مصوراً الليبرالية على أنها إيديولوجيا لا دينية مهمتها الغاء الدين وتعزيز الإنفتاح الجنسي فقط، دون الولوج إلى روح الليبرالية ومبادئها الأساسية، وهذا التصوير القاصر هو ما خلق فهم مغلوط نتج عنه نظرة سلبية من قبل الرأي العام العربي إتجاه الليبرالية، وهذا أيضاً ساهم في تدعيم الدعاية التشويهية التي يقودها الإسلاميين ضد الليبرالية، لنتخيل أن مؤسس المدرسة الليبرالية "جون لوك" قال أن الليبرالية هي الإلحاد والحرية الجنسية بدلاً من القول أنها الحرية بمفهومها العام وحكم الشعب والقانون؟
هل كان الاوروبيين سيقبلون بأفكاره وينشرونها؟
يمكن الجزم أن ذلك لن يحصل، وقد ينتهي المطاف بجون لوك في ساحة الإعدام، ليموت هو وفكرته .


أعتقد إني لن أكون مبالغاً لو قلت أنه لا يوجد حراك ليبرالي حقيقي في الوطن العربي، ليبرالية تعمل وفقاً لمبادئها الأساسية، وليست مجرد شعار للحديث عن هوامش ليست ذا ضرورة، لذا تبقى أزمة الليبرالية العربية أنها غير موجودة أساساً !
فقط إسمها موجود ويرتديه بعض المهتمين بشؤون المرأة ورواد التحرر الجنسي واللادينيين، فمن البديهيات أنه لا يمكن لأحد أن يكون ليبرالي وهو يشجع أنظمة ديكتاتورية قمعية لا تؤمن بمبادئ الليبرالية،
مع الأسف، فأن مصطلح "الليبرالية" يطلق على مثل هذه العينات !


المطلوب من التيارات الليبرالية العربية اليوم أن تعيد قراءة المشهد بعناية وإتزان، وتتأمل في حالها وتُراجع نشاطاتها، وتقوم بإصلاحات عميقة وواسعة، وإعادة بناء قوامها بشكل يضمن أن تعود للمشهد السياسي بقوة، ومن الإصلاحات المطلوبة هو إعادة تعريف الليبرالية وفقاً لتعريفها الأصلي والكلاسيكي، والعمل بروح الليبرالية ومبادئها الحقيقية، والإبتداء بالأهم وإنتهاءاً بالهوامش والأقل أهمية، كما ينبغي على كوادر تلك التيارات إستيعاب أن الليبرالية هي ايديولوجيا سياسية لا تفرض أي معتقد ديني على أي أحد، وليست عكس الدين، ووجود مسلم في أي تيار ليبرالي ليس شيء شاذ، ومن المفاهيم المغلوطة الإعتقاد بأن الليبرالية هي للادينيين فقط، وأن هدفها الأسمى هو بناء دولة لا دينية تزدري الإيمان وتمجد الإلحاد، لا يمكن لك أن تكون ليبرالياً أكثر من "أبو الليبرالية" جون لوك الذي كان مسيحي بروتستانتي، ينبغي على كل تيار ليبرالي عربي، أن ينشأ على الليبرالية الكلاسيكية أولاً، ويسير عليها، ثم يسير تدريجياً نحو تطويرها وفقاً للمناخ والبيئة المحيطة به، فالجزيرة العربية مثلاً، ليست فرنسا، كما هو الحال مع إنجلترا، فالليبرالية الإنجليزية تختلف بشكل ملحوظ عن الليبرالية الفرنسية، وذلك بسبب الظروف التاريخية الخاصة لكلا البلدين؛
كذلك عربياً، بالتأكيد الليبرالية العربية لن تكون نسخة طبق الأصل من أي نموذج ليبرالي غربي، فلا بد من بعض الإختلافات غير الجوهرية، وذلك بسبب إختلاف الوضع التاريخي والإجتماعي والثقافي بين العرب والغربيين، ولكن الأهم هو الأخذ بالمبادئ الأساسية وروح الليبرالية والعمل بها، ووجود التباينات أمر غير سلبي، بل على العكس، شيء صحي لليبرالية نفسها، فذلك يعزز من مبدأ الليبرالية الأساسي "الحرية"، ويطبع وجودها في المجتمع العربي، ويجعلها مقبولة إجتماعياً وقابله للتوسع والتطور سياسياً وشيوع الفكرة في الرأي العام العربي .


عموماً، الفهم المغلوط لليبرالية الذي يؤدي بالمجتمعات العربية للنفور منها ليس سببه الرئيسي الدعاية المضادة التي تقودها التيارات الإسلامية، أو الجمود الفكري، أو التأخر الثقافي، بل سببه الرئيسي هو الأطروحات والتوصيفات الخاطئة لليبرالية التي يتحدث فيها من ينسبون أنفسهم إليها من الشخصيات العربية، لذا تحتاج الليبرالية كتيار التخلص من الإرث الفاشل، وخلق نموذج جديد مبني على المبادئ الرئيسية لليبرالية، وأكثر نضوجاً وفاعلية مما سبق . 


يمكن التركيز على نقطة هامة، في التاريخ السياسي للعالم العربي، يُلحظ أنه منذ سقوط الدولة العثمانية يتناوب على حكم الدول العربية الإشتراكيين والشيوعيين والإسلاميين، ربما وصول التيارات الإسلامية للحكم أمر مفهوم، نظراً للأسباب التي ذُكرت في المقال السابق "أزمة التيارات الإسلامية في الوطن العربي"، لكن ما سر صعود التيارات الماركسية؟
الأمر الجوهري المشترك بين التيارين الماركسي والإسلامي هو تمسكهما بالمبادئ الرئيسية لإيديولوجياتهم، والتركيز عليها في الخطابات، يتحدث الإسلامي بوضوح دائماً في خطاباته عن ضرورة تطبيق الشريعة وخلق دولة إسلامية، ويتحدث الماركسي في خطاباته عن حقوق العمال وسلبيات الرأسمالية وضرورة إنشاء منظومة إقتصادية إشتراكية، كما يتميز الإشتراكيين بمرونتهم وتجنبهم للإصتدام مع المجتمع، على سبيل المثال، لو سألت أي شخص عاصر حقبة جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية عن علاقة نظام الحكم بالدين، ستجده على الاغلب يجيبك بأنه لا يوجد أي صدام حقيقي بين السلطة الحاكمة والمظاهر الدينية، وإن وُجد فستكون حوادث قليلة ومتفرقة غير ممهنجة، قد يكون هذا هو سبب مكوث الماركسيين في رأس السلطة حتى الوحدة في منتصف سنة ١٩٩٠م، حيث لم يهتم الماركسيين الجنوبيين بمحاربة الدين والتصادم مباشرة مع الرأي العام، بل أبقوا المظاهر الدينية مكانها، لكن دون أن تصل للسلطة، وإنشغلوا ببناء الحزب الإشتراكي وتعزيز مفاهيم الماركسية بشكل تدريجي عبر المؤسسات التعليمية والثقافية، فلن تجد ماركسي يسلط كل وقته ونشاطاته لمنع الحجاب، او الحرية الجنسية، او غيرها، بل يركز جميع مفوهي الماركسية على الحديث عن المبادئ الأساسية لإيديولوجيتهم، وهذا - برأيي - أفضل طريقة للعمل السياسي لأي تيار يعتنق ايديولوجيا مستوردة غير مألوفة للرأي العام .  


ختاماً، لست راضٍ عن الحالة التي تبدو فيها الليبرالية في العالم العربي، يتقمصها ارجوازات تتملص عن مبادئ الليبرالية الجوهرية والتأسيسية، وتذهب للحديث عن هوامش الأمور، أتمنى فعلاً أن ينتهي هذا الوضع، ونتمكن يوماً من رؤية تيار ليبرالي عربي حقيقي، يشارك بفاعلية في المشهد السياسي، إلى جانب التيارات الأخرى