عُمر غلاب ..فنان يمني كبير عالي فوق السحب..و لايغيب مقال تحية من ضياف البراق

  • منذ سنة - Monday 05 September 2022

عُمر غلاب ..فنان يمني كبير عالي فوق السحب..و لايغيب مقال تحية من ضياف البراق
عُمَر غلّاب.. فنّانٌ كبير على حافّة النسيان

- ضِيَاف البَرَّاق


إنها أغنية وطنية يمنية مُميَّزة جدًّا وهي تلك الأغنية التي غنّاها الفنان الراحل عُمَر غلّاب.. يا لها من أغنية ساحرة، تجتذبك، تزيدك شغفًا وحماسًا، تمنحك إحساسًا وطنيًّا عاليًا، تطربك، تنتشلك من حالة اليأس والركود إلى حالة اليقظة والعشق الوطني.. ولا يوجد فنان يمني آخر يستطيع أن يؤدّيها كما أدّاها عمر غلّاب، فصوته الدفّاق الفخم لا مثيل له، كأنه صوت قادم من نبع ملائكي بعيد.. تبدأ الأغنية بهذه الكلمات الحلوة والبسيطة: 

(عاليْ فوق السُّحب يا يمنَ السعيدْ
عالي فوق الشُّهُبْ بالعهد البعيدْ
عالي شموخك بين الشعوبْ
غالي وإسمك نبض القلوب)
.....

نسيناك يا عمر غلاب، وأهملناك، نحن لا نعرفك، ولا نتذكرك، نسمع صوتك أحيانًا، في هذه الأغنية أو تلك، ولكن لا نعرف أنه صوتك، وأن اسمك هو هذا الصوت الذي يُنعش أرواحنا عندما نستمع إليه، ونعتجن بعذوبته المُفرِطة.. ربما بعض أولئك الذين عايشوك، أو جالسوك عن قرب، واقتسموا معك كؤوس الفن والمحبة، كانوا يعانقون سيرتك العَطِرة، في أثناء حياتك، ويقدّرون فَنّك، ويحتفون باسمك اللامع، ولكنهم تناسوك مع الوقت، بعد رحيلك خصوصًا، ولم يعُدْ يؤلمهم هذا النسيان المقصود أو البريء..

من حق الجمهورية علينا، أن نحافظ على تراثها الضخم، وألّا ننسى أولئك الرجال العظام الذي تغنّوا بها، وغنّوها، وغنّوا لشعبها، وأعطوها من دمائهم وأفكارهم وقلوبهم، بغير حساب! ومن هؤلاء، هذا الفنان الكبير، الذي نكاد أن ننساه تمامًا، مع أنه فوق النسيان بكثير، ألا وهو عُمَر غلّاب!

ثم إنه هو الذي غنّى للوطن والجمهورية هذه الكلمات: 

(يا بلادي نحن أقسمنا اليمينا 
أن نكون الأقوياء القادرينا
فانطلقنا ثائرين
وانتزعنا الحقَّ والنصرَ المبينا)

(إلى آخرها...) 
....
وهي قصيدة وطنية رائعة وصادقة كتبها الجمهوري العظيم الشاعر والمؤرِّخ المعروف مطهر بن علي الإرياني! وكعادته، عندما يُغنّي للوطن والشعب، يتفرّد عمر غلّاب، يذهب بجمال صوته إلى أبعد مدى، مُثيرًا الدهشةَ والحماسَ، باعثًا حياة جديدة في عروقنا اليمنية. وأيضا هو الذي غنّى أغنية بديعة ومرموقة هي "بلادنا يا حقول" وهي كذلك من إبداع الشاعر مطهر الإرياني: 
(بلادنا يا حقول
اتموجي بالسنابل
بلادنا يا سهول 
هيا اهتفي للمعاول)
.... 

رغم أنه مات عن عمر ناهز الخمسين، لكن صوته بقي حيًّا، مضيئًا، متدفِّقًا في مجرى التجدد والخلود، وهذه حقيقة لا تقبل الشك. أهلكه المرض، قاومه كثيرا، وفي النهاية مات، تاركًا خلفه هذه الجواهر الغنائية النفيسة، كي تذكِّرَنا به في سنوات الغياب، وتُضيءَ نفوسَنا عندما ننغمر بالظلام والضياع ونغرق في التيه، وآه من جمال صوته الذي يصيب روحي برعشة لذيذة، يهزّني، ويأسرني، ويشد أعماقي نحو أعماق الحياة..

حول هذا الفنّان الذي لم ينل ما يستحق من التقدير والاحتفاء، سألتُ الشاعر اليمني يحيى الحمّادي، فأجاب: "الفنان عمر غلاب، قامة وطنية وفنية خالدة، ولعل الكثير من الفنانين اليوم لا يعرفون الحجم الوطني الكبير لهذا الفنان الذي جاب الوطن شماله وجنوبه بعد ثورة سبتمبر الخالدة، وهو حامل عودَه على ظهره، ومتسلحًا بضميره الفني المخلص الذي استنهضه للقيام بهذا الدور المهم في ظرف كان الوطن في أمس الحاجة إليه. هناك قامات وطنية كبيرة تم تجاهلها وتهميشها لأسباب مجهولة، ولعل فناننا عمر غلاب كان واحدا من هؤلاء الذين لم ينالوا حقهم المستحق من التكريم والشهرة.". 
نعم وبلا أدنى شك، فهذا فنان يمني حقيقي، له حضور بارز، وبصمات استثنائية على صفحة الفن اليمني، وروح متوهِّجة تقاوم عملية الفناء والنسيان ورياح الخريف، وإن الزمن لعاجزٌ عن إطفاء هذا الصوت الشُعلة، الضارب في أعماق هذه الأرض ونخاع الوجدان الوطني العميق..

ثم توجّهتُ بسؤال آخر إلى الروائي اليمني علي المقري، فأجاب على الفور، قائلًا: "كلّما استمعت لصوت الفنان عمر غلاب أشعر أن اليمن خسر  قدرات فنان كبير لم تُتَح له الإمكانيات المطلوبة لتقديم موهبته الفنية التي كانت ملفتة بين مجايليه الفنانين. صاحب صوت شجي وقوي عبّر عن روح المهاجِل والأنغام اليمنية الخالدة، ربما لحساسيته الفنية العالية والخاصة كان عصيًّا على السقوط في أغاني التهريج والبهرجة اليومية العابرة".

هو أحد أركان الأغنية الوطنية الناضجة، ركن أصيل فيها، وصوته خارق، دافئ، عاطر برائحة الأرض، ونديّ بعشقها.. صوته عالٍ، عال فوق السُّحب.. هذا الفنان المنفرد، بفخامة موهبته الفذّة، وسعة ثقافته الفنية، وبروعة أغانيه المشحونة بطاقات جمالية كثيفة.. لكَمْ تفانى في عشق وطنه، وكم غنّاه بروحٍ مُبدعِة لا نهايةَ لها، وأنارَ بضوء نبضه الغنائي، طرقاتٍ عديدة، كلها تأخذنا إلى منبع الوطن، ومنبع المحبة والجمال، ونبع الحرية والثورة..

وعندما سألتُ الفنّان والمصور الصحفي المرموق عبدالرحمن الغابري، عن الفنان الراحل قال لي: "هو صديقي وزميلي ورفيق السفر لأكثر من بلد، وصوره الجميلة أنا من التقطها، عمر غلاب طاقة فنية كبيرة ورائعة، عزفًا وصوتًا وأداءً، صحيح كان يعاني من تأتأة في لسانه عندما يتحدث، لكنها سرعان ما كانت تختفي عندما يعزف على العود، ويُغنّي بصوته المُدهِش.. إنه فنان بكل المقاييس، ذو سلوك نبيل وأخلاق رفيعة، حتى إذا مشيت بجانبه شعرتَ تلقائيًا بأنك تسير برفقة ملاك!". 

فنان في مستواه، إذَنْ كيف يُنسى؟! لماذا لم نَعُدْ نعرفه، ولا نذكر اسمه؟ هذه آفتنا؛ عجْزُنَا عن تقدير المواهب الكبيرة، وبُعْدُنا القاسي عن كل نجمٍ يُضيءُ لنا الطريق، وتهميشنا لمبدعينا العظام، وعندما نتذكّرهم، نفعل ذلك بعد فوات الأوان، ثم نعود وننساهم من جديد، ولفترة أطول! 

فنّاننا القدير ذو إحساس فنّي ممتاز، ممتلئ بالسِّحْر والعشق والنور والشجن، وعندما يُغنّي يبدو كمن يخترق كل السدود، كي يروي الحياة من نبيذ روحه المترعة بالنقاء والفرادة والشغف.. تألّقَ كثيرًا، وتمكّن من إضفاء روح الجمال على الكلمات التي غنّاها، كان على الدوام بعيدًا عن التقليد والابتذال، ثم إنه استطاع أن يكون فنّانًا استثنائيًّا.. 

أخيرًا، وهكذا، فإنه كغيره من نجومنا الكبار، تعرّض للنسيان والإهمال والتهميش، برغم أنه خير من خدم الوطن وأعطى الحياة وأثرى الأغنية اليمنية.. ولكن التاريخ لا يرحم الذين لا يحترمون كنوزهم الفنية. وعلى مستوى الساحة الفنية اليمنية، فإنّ الصوت الأكثر انفرادًا، والأبعد عمقًا، والأكثف عذوبةً، صوت عمر غلّاب.. هل ما زلتم تعرفونه؟ هل تحفظون هذا الاسم الذي غُمِرَ بدون حق؟ إذا نَسِيَك هذا الخريف اليمني الكئيب، فأنا الربيع الذي لن ينساك أبدًا، نم بسلام، ولا تحزن على نفسك وأنت ترقد في قبرك، فأنت عظيم بلا شك، وجدير بأن نحتفي بك دون يأس، لروحك المجد والحب والسلام أيها الفنّان المغمور!