الكمالي يحكي لنا عن صلاة الموجوعين

  • منذ سنة - Thursday 01 September 2022

الكمالي يحكي لنا عن صلاة الموجوعين

صلاة الموجوعين



كانت الجمعة الأولى لي في الحي الجديد الذي انتقلت إليه خلال الأسبوع الحالي كنت أتجهز لصلاة الجمعة واقفاً على باب المنزل الجديد ذو الثلاثة الطوابق أستمع جيداً لأصوات المآذن القادمة نحوي, كانت كلها تصدح من مكان قريب هرولت نحو الغرب حتى وصلت لشارع المشاه الرئيسي بمدينة إب التي تقع وسط اليمن, كنتُ أصادف أمامي مسجد والمصلون يتوافدون إليه وكنت منهم, ورغم تأخري على خطبة الجمعة إلى أنني استمعت لخلاصتها بعدما وصلت وكنت بجوار شخصين, كانت سمرة وجوههم توحي أنهم من مدينة أخرى، الخطيب ذو اللحية الخفيفة يعلو المنبر يتحدث عن قضايا الوطنية وعن السلام, عن الوطن الذي يتمزق شمالاً وجنوب عن الأوضاع المعيشية وعن المرضى والأوبئة والجرحى والشهداء والدمار والغارات، وطوابير البترول والغاز ،كنتُ أشعر حينها بتنهدات الرجلين بجانبي  آنات متتالية صادقة وحزينة  ومليئة بالوجع ، ومبهمة المشاعر في الوقت ذاته ، وخلفها  وجع كبير بحجم الوجع الذي يعيش به اليمن ككل، كان ذو اللحية الخفيفة على المنبر يرفع يديه ويدعوا بأن تتوقف الحرب، أن ينتشر السلام في اليمن، أن تتوقف آلة الحرب عن حصد الأرواح، كنا جميعاً ندعو معه وأنا أرفع يدي للسماء مثل ملايين الأيادي التي ترفع كل يوم بعدما تعبنا من الحرب منذ ثمان سنوات،  كان دعاؤنا يختلطُ مع أنين يُعبر هذه المرة عن بكاء مؤلم ولوجع وصل لحدود لا يطاق، كانَ الرجلين بجانبي يبكيان معاً، كانت الدموع تسابق الكلمات ،  ثمةَ وجع يجثم على صدر الرجلين معاً أكثر منا على الأقل في الوقت الحالي، لستُ أدري هل يعرفان بعض أم لا، لكنني مؤمن أن لهم ذات الوجع ذات الحزن،  ذات الهموم التي نحملها جميعاً، كان الإمام يؤذن لصلاة الجمعة، وكل تفكيري بالرجلين، لماذا أشعر أنهم  أكثر وجعاً من كل المصلين وكان ما حدث لهم ويحملونه في صدورهم أكبر مما نحمله .



كانت صلاة الجمعة تنهي  طقوسها وانا أستدير نحو أحد الرجلين الذي استقمنا لتأدية الصلاة ولكني لم أراه  يقف معنا ومثلنا،  أدى الصلاة وهو بجلوسه دون تغير منذ أتيت في أواخر الخطبة، كنتُ أسبقه مقدماً يدي لأصافحه بحرارة وأخبره إين يقطن،  وهو يحاول لملمه دموعه التي بخديه و يخبرني أنه نزح من مدينة الحديدة، لكن ثمة شيء غير إعتيادي شل حركتي تماماً وأصابني بالصدمة كأنها إجابة لكل التساؤلات  وللدموع التي كانت تغسل وجهه بالصبر, كان الرجل الذي أدى الصلاة جالساً بلا ساق، كانت ساقة اليسرى مفقودة, ساقة اليسرى مبتورة، ليخترق صمتي قائلاً ( بُترت ساقي اليسرى بعدما قابلتُ لغماً أرضياً وأنا متجه نحو المدرسة للتدريس, لقد قتلت الحرب ساقي ودفنتها  بيدي ) كنتُ أشعر بتلك الحرقة التي كانت تحرق داخله اثناء دعائنا، كيف بمقدور أحدهم أن يدفن عضواً من جسده ، أستند عليّ الرجل ووقف قبل أن يأتي أبنه بعجازة من الخلف أشعر بالحرب وكانها بترت شيئاً ما بداخلي وليست فقط ساق الرجل ، كنت حينها أبحث عن الرجل الأخر الذي يليه وأجزمُ أنهُ لا يقل عنهُ وجعاً،  فلوحت له بيدي لمصافحته، وبغير المتعارف عليه في مجتمعنا أن نتصافح بأيدينا اليمنى، لكنه مدى يده اليسرى لمصافحتي، حسبته أنه يسخر مني وهو يعدل كامل جسده نحوي، وقلبي يصرخ بداخلي يا الله لماذا كل هذا الوجع. 


 كان الرجل الأخر لا يمتلك يده اليمنى, كان يخبرني ( أعذرني فقدتُ يدي اليمنى بعدما أنهار جدار منزلي فوق يدي بسبب غارة جوية خاطئة في مدينة تعز) كانت الدموع تجرح عيناي وهي تهطل بغزارة وأنا أهرول  للعودة لمنزلي وبداخلي  شعور بأن كل عضو في جسدي قد بُتر. وكأنني أنا من بُترت ساقة ويده ودفنها بالتراب.



كنت أشعر بكل تلك الأوجاع التي تتنامى بصدور اليمنين شمالاً وجنوب، شعرت بكل  اليمنيين البسطاء الذين يعشقون هذا البلد وفقدوا جزء من أجسادهم  بسبب الحرب ، شعرت بكل من فقد قريباً وعزيزاً بسبب الحرب ،شعرت بكل المعاناة ااتي لا يمكن لها أن تتوقف إلا بتوقف الحرب ، 


فكم نحن بحاجة للسلام وإيقاف الحرب , من أجل كل الذين رحلوا واستشهدوا وفقدوا أجزاء من أجسادهم  مثلما  فقدها  الرجلين .