منذ أسبوعين - Sunday 27 April 2025
AF
في الركن الجنوبي الغربي من شبه الجزيرة العربية، حيث تعانق الشمس مياه البحر الأحمر، وتهب الرياح برائحة البن والبهارات، يقف ميناء المخا شاهدًا خالدًا على عصرٍ كانت فيه اليمن درة التجارة البحرية، ومركزًا اقتصاديًا لا ينافسه مركز.
لم يكن المخا مجرد مرسى للسفن، بل كان شريان حياة يربط الشرق بالغرب، ومنصة عظيمة لحضارة مديدة ازدهرت هناك قبل آلاف السنين. في زمنٍ كانت المراكب الشراعية تُبحر فيه وفق أسرار الرياح ومواسم البحر، كان المخا وجهة لا بديل عنها؛ تقصده السفن من الهند وشرق أفريقيا، وتحط رحالها فيه سفن أوروبا الباحثة عن سلع الشرق الثمينة.
مع بداية الألفية الأولى قبل الميلاد، ومع ازدهار حضارات سبأ ومعين وحمير، لمع نجم المخا كميناء استراتيجي، تصدّر تصدير البخور والمر واللبان، تلك السلع التي كانت في ذلك العصر أغلى من الذهب، والتي أُوقدت في معابد الإلهة القديمة وقصور الملوك. وكانت قوافل اليمن، التي تخترق الصحارى وتصل إلى الشام ومصر وبلاد الرافدين، تبدأ رحلتها أو تختمها من هنا، من بوابة المخا البحرية.
لكن العصر الذهبي للمخا الحقيقي انفجر في القرون الوسطى، حين أصبح اسم المدينة قرينًا لسلعة ستغير مسار التجارة والثقافة العالمية: البُن اليمني.
كان البن الذي ينبت في سفوح جبال اليمن، ويجمع بعناية في مدرجات معلقة فوق الغيم، يحط في ميناء المخا قبل أن يركب البحر في طريقه إلى القسطنطينية، وأوروبا، والهند، والعالم الجديد.
حتى أصبح اسم “موكا” (Mocha) على كل لسان، لا كاسم لميناء فحسب، بل كمرادف للقهوة ذات النكهة الساحرة، وكان مقهى المخا في كل مدينة من مدن العالم مركزًا لطبقة المثقفين والتجار ورجال السياسة.
لم يكن ميناء المخا نقطة عبور تجارية فحسب، بل كان مركزًا للتبادل الثقافي والاقتصادي. كانت السلع تتبادل كما تتبادل الأفكار؛ وكانت النقود تتدفق كما تتدفق الأساطير والحكايات. ازدهرت المدينة، وعمرت بالأسواق والوكالات التجارية، وارتفع فيها صدى اللغات المختلفة، واختلطت فيها الأزياء والعادات، فغدت المخا آنذاك مدينة عالمية بكل المقاييس، قبل أن تعرف البشرية مفهوم العولمة الحديث.
ومع توالي القرون، ومع التغيرات السياسية الكبرى، بدأ نجم المخا يخفت تدريجيًا، خاصة بعد أن تحولت طرق التجارة إلى مضائق أخرى، ومع ازدياد تدخل القوى الأجنبية في المنطقة. لكن رغم أفولها السياسي والاقتصادي، بقي اسم المخا خالدًا، يتردد في عبق فناجين القهوة التي انتشرت في كل ركن من أركان الأرض.
اليوم، حين نذكر المخا، لا نتحدث فقط عن ميناء قديم أو مدينة تاريخية، بل نستحضر فصلًا مجيدًا من كتاب الحضارة اليمنية… فصلًا كتب فيه اليمن حضوره بقلم البن ودفتر البحر وريشة الريح.
ارتبط اسم المخا إلى الأبد بأعطر سلعة عرفها التاريخ: البن.
فمن هذا الميناء الصغير على الساحل الغربي لليمن، انطلقت أولى شحنات القهوة اليمنية إلى العالم، تحمل معها سحر الجبال ورائحة الأمطار الأولى.
ولأن المخا كانت الممر الحصري للبن القادم من مزارع اليمن الخصبة، أصبح اسمها نفسه علامة تجارية عالمية، وتحول في لغات الدنيا إلى “موكا” (Mocha)،
رمزًا للجودة والطعم الفريد الذي لا يشبهه شيء.
لم يكن “موكا” مجرد اسم لميناء، بل صار مرادفًا لأسطورة القهوة: مذاقها العميق، عبيرها الدافئ، وحكايات السهر الطويلة في مقاهي الشرق والغرب.
وهكذا، خطّ المخا اسمه بحروف البن في ذاكرة العالم، وبقي خالدًا مع كل فنجان قهوة يرتشفه البشر حتى اليوم
ميناء المخا… قصة ذهبية عن زمن كان لليمن فيه اليد العليا، والعطر الأثمن، والكلمة العليا فوق أمواج التجارة العالمية