منذ 4 أسابيع - Thursday 17 April 2025
AF
زيارة وزير الدفاع السعودي الأمير خالد بن سلمان إلى طهران في أبريل 2025، بدعوة من نظيره الإيراني محمد رضا آشتياني، لم تكن مجرد خطوة بروتوكولية في سياق العلاقات الثنائية. بل جاءت كحلقة محورية في سلسلة تحركات استراتيجية تهدف إلى إعادة صياغة مشهد القوة في الإقليم، وفي القلب منه اليمن، الساحة الأكثر تعقيداً منذ بدء عاصفة الحزم عام 2015.
اللافت في الزيارة كان مرافقة السفير السعودي لدى اليمن، محمد آل جابر، وهي دلالة رمزية وسياسية عميقة، تُظهر أن الملف اليمني لم يكن غائباً عن طاولة الحوار، بل ربما كان أحد أركانه الأساسية
منذ اتفاق بكين في مارس 2023، الذي رعته الصين، شهدت العلاقات السعودية-الإيرانية تحولاً هادئاً لكنه ثابت. الانتقال من سياسة الحافة إلى سياسة إدارة النفوذ لم يكن سهلاً، لكنه كان ضرورياً. ففي ظل انشغال أمريكا بأولوياتها الآسيوية وتراجع اهتمامها المباشر بالشرق الأوسط، وجدت الرياض وطهران نفسيهما أمام خيارين: الاستمرار في استنزاف بعضهما في ساحات الوكالة، أو تبني نموذج تعايش استراتيجي يضمن استقراراً نسبياً.
زيارة وزير الدفاع السعودي تُعد أول زيارة رسمية بهذا المستوى منذ استئناف العلاقات، وتحمل دلالات أمنية عميقة، فهي تشير إلى أن الرياض لم تعد تنظر إلى طهران فقط كخصم أيديولوجي، بل كفاعل إقليمي يجب التفاهم معه لإدارة ملفات ملتهبة، وعلى رأسها اليمن.
مشاركة السفير السعودي في اليمن في الوفد تعني شيئاً واحداً: الملف اليمني على الطاولة بجدية. من منظور استراتيجي، يشكّل الحوثيون أحد أبرز أذرع إيران في المنطقة، وأي تقارب سعودي-إيراني بدون مقاربة جدية لحل النزاع اليمني سيكون ناقصاً.
لكنّ الحوثيين اليوم ليسوا كما كانوا في 2015. هم الآن فاعل سياسي وعسكري معقّد، يتحرك في فضاء إقليمي، ويفاوض من موقع قوة نسبي. ولعل السؤال الأهم هو: هل تقبل السعودية بصفقة تنهي الحرب مقابل ضمانات إيرانية؟ أم أن الرياض تطمح إلى مقايضة أوسع تشمل تهدئة إقليمية مقابل احتواء النفوذ الحوثي.
وجود آل جابر ضمن الوفد السعودي يرمز إلى دور متصاعد له، ليس فقط كدبلوماسي، بل كـ”مهندس الملف اليمني” داخل النظام السعودي. ظهوره في طهران قد يشير إلى أنه يحمل مقترحاً سعودياً مدروساً لإنهاء الحرب، مدعوم بغطاء عسكري وسياسي من المؤسسة الأمنية السعودية.
في المقابل، قد تكون طهران قد أبدت استعداداً لـضبط سلوك الحوثيين أو دفعهم نحو تسوية، ضمن رؤية أوسع تضمن لهم موقعاً سياسياً مستقبلياً في أي حكومة يمنية قادمة، مقابل وقف كامل للهجمات على السعودية والمنشآت النفطية
هذا التقارب السعودي-الإيراني، رغم أنه يأتي في ظل تراجع نسبي للنفوذ الأمريكي المباشر، إلا أنه لا يخرج من المدار الأمريكي كلياً. واشنطن وإن أبدت تحفظاً على الوساطة الصينية في 2023، إلا أنها تدرك الآن أن خفض التوتر بين الرياض وطهران يصب في مصلحتها الاستراتيجية، خصوصاً في ظل التحديات الدولية في أوكرانيا وآسيا.
لكن أمريكا ستظل تراقب بدقة: هل التقارب يعني إطلاق يد إيران أكثر في اليمن؟ أم أن هناك تفاهم ضمني على تقليم أظافر الحوثيين؟ واشنطن، الحاضرة بخجل في المشهد اليمني، لن تقبل بتحول اليمن إلى منطقة نفوذ إيرانية مطلقة على باب المندب.
ما يجري حالياً قد يكون تمهيداً لاتفاق أكبر، ربما على شاكلة “اتفاق الطائف 2.0” يمنح الحوثيين حصة، ويُبقي على وحدة الدولة، ويضمن مصالح السعودية، ويخفف الضغط عن إيران. ولكن النجاح مشروط بعوامل كثيرة، منها:
التزام الحوثيين بوقف إطلاق النار الكامل وعدم استغلال التهدئة لإعادة التموضع.
مرونة السعودية في القبول بواقع سياسي جديد في صنعاء.
دور إيراني ضامن لا متحكم.
مشاركة الأطراف اليمنية الأخرى وضمان عدم تهميشها
التقارب السعودي-الإيراني ليس ضماناً للسلام، لكنه نافذة نادرة لفرصة تاريخية. زيارة خالد بن سلمان إلى طهران لم تكن مجرد لقاء دبلوماسي، بل كانت محاولة لترسيم قواعد اشتباك جديدة في المنطقة، والملف اليمني سيكون أول اختبار لصدق النوايا وقدرة الطرفين على تحويل التقارب إلى حل حقيقي لأطول حرب في المنطقة
في الأعراف الاستخباراتية والدبلوماسية، لا تُرسل الدول شخصيات بحجم وزير الدفاع إلى دولة خصم تاريخي إلا إذا كانت تملك معلومات حساسة أو ترتب لخطوات ميدانية حساسة. وجود السفير السعودي في اليمن محمد آل جابر، المعروف بعلاقاته المعقدة مع قيادات ميدانية وشخصيات قبلية داخل اليمن، يعزز هذه القراءة.
آل جابر لم يكن مجرّد سفير تقليدي، بل لعِب في السنوات الماضية دوراً أقرب إلى “المندوب السامي” في الملف اليمني، بتنسيق مباشر مع جهاز رئاسة الاستخبارات العامة السعودية. ظهوره إلى جانب وزير الدفاع في طهران يُلمّح إلى إعادة ضبط لمسار الحرب والسلام في اليمن، ربما بتنسيق أمني غير مُعلن مع إيران.
من المحتمل أن تكون الرياض طلبت من طهران نقل رسائل مباشرة للقيادة الحوثية، أو حتى التفاهم حول خطوط حمراء مستقبلية تخص باب المندب، أو العلاقة مع إسرائيل، أو الحشد البحري الأمريكي في البحر الأحمر.
من المعروف أن هناك قنوات خلفية تعمل منذ سنوات بين الحوثيين والسعوديين عبر مسقط. وجود السفير آل جابر في طهران قد يعني أن هذه القناة ارتُقي بها إلى مستوى أعلى، وأن ما يجري الآن هو تفاوض سياسي أمني مشترك تدعمه طهران وتباركه بكين بصمت.
السعودية لم تذهب إلى طهران لمطالبتها بتقليص “أيديولوجيا التشيع” أو تخفيف دعمها لحركات “المقاومة”، بل ذهبت برسالة براغماتية:
“نريد هدنة دائمة في اليمن، مقابل أن نضمن لك دوراً في مستقبل النظام هناك، بشرط أن يكون هذا الدور تحت سقف الدولة اليمنية وليس ضدها.”
من المرجح أن تكون الرياض قد طلبت من طهران ضمانات بعدم المساس بالمصالح الاقتصادية السعودية، وخصوصاً:
تحييد باب المندب عن أي صراعات ضد إسرائيل أو التحالف الدولي.
التزام الحوثيين بوقف الطيران المسيّر والصواريخ الباليستية.
زيارة وزير الدفاع لطهران تتجاوز البُعد الأمني، فهي أيضاً رسالة للولايات المتحدة:
“لسنا بحاجة للوجود العسكري الأمريكي المباشر لضبط الإقليم. نملك قنواتنا وخبراتنا وتحالفاتنا، ونستطيع أن نُدير خلافاتنا مباشرة مع طهران دون وسيط.”
وهنا، تبدو الرياض وكأنها تحاول أن تتصدّر مشهد الحل في اليمن، لا كطرف في حرب، بل كراعٍ لتسوية سياسية مستقبلية، وهذا التحوّل مهم وخطير في آنٍ معاً.
زيارة وزير الدفاع السعودي إلى طهران ليست مجرد “مصالحة دافئة”، بل هندسة لإعادة توزيع النفوذ في اليمن على أسس أمنية-سياسية جديدة. السفير آل جابر، بخبرته وعلاقاته، يلعب الآن دور “ضابط الإيقاع” لهذه المرحلة.
الكرة الآن في ملعب الحوثيين: هل يلتقطون التحوّل الإقليمي ويتجهون إلى تسوية تحفظ لهم حضوراً سياسياً؟ أم يستمرون في الاستثمار في التصعيد كورقة ضغط؟
أما إيران، فهي تختبر قدرتها على التحوّل من لاعب يحرّك وكلاء إلى لاعب يصوغ حلولاً مع الخصوم.
المرحلة المقبلة ستُحدّد ما إذا كان هذا التقارب “هدنة طويلة” أم بداية لصياغة نظام أمني جديد في الجزيرة العربية.
سلام